كتب:امير محمد ـ شهد أسامة 

من أوراق العمل إلي أوراق الطعمية

من أوراق رسمية الي قرطاس: حين يتحول المستند إلى وجبة

الأوراق الرسمية تتحول إلى وجبات شعبية

في ضواحي مصر الشعبية، حيث تمتزج تفاصيل الحياة اليومية بأصالة العادات وروائح الطعام المميزة، تتجلى ظاهرة لافتة قد تبدو للوهلة الأولى عابرة، لكنها تحمل دلالات أعمق. أوراق رسمية، مثل شهادات الميلاد وعقود الإيجار، والتي كانت يومًا رموزًا موثقة لمحطات حياتية هامة، تجد نفسها وقد تحولت إلى مجرد أغلفة تُستخدم في لف الطعام الشعبي. هذه المفارقة تطرح تساؤلات جوهرية: كيف انتقلت هذه الوثائق من كونها شاهدة على لحظات فارقة إلى أدوات استهلاكية؟ وهل فقدت قيمتها في زحمة الحياة، أم أن في طياتها قصصًا أُهملت مع مرور الزمن؟

كيف تصل الأوراق الي هنا؟

عند استفساري من عم صبحي، صاحب مطعم “أولاد صبحي” في منطقة بولاق الدكرور، حول مصدر الأوراق التي يستخدمها في لف الطعمية، أشار إلى أن تلك الأوراق تأتي من “بتاع الأكياس”، الذي يتعامل مع كميات ضخمة من الورق. ورغم أن مطعمه يعد من الأماكن الشهيرة في منطقته، إلا أن عم صبحي لم يظهر أي اهتمام بنوعية الأوراق المستخدمة، مؤكدًا: “أنا مش فارق معايا الورق ده إيه، المهم يلف الطعمية”. وعندما تابعت سؤالي عن مصدر الأوراق بشكل أوسع، تبين أن الأوراق تأتي من سوق “الخردة”، حيث يشتري تجار الأكياس الأوراق بالكيلو من تجار الخردة.

الأوراق التي ضاعت في زحمة الحياة

 أوضح أحد تجار الخردة أن الورق الذي يبيعه لتجار الأكياس يأتي في الغالب من “بتاع الروبابيكيا”، الذي يتجول في الشوارع لشراء الأوراق القديمة والكتب المستعملة التي تبيعها الأسر أو بعض السيدات في المناطق الشعبية. يُباع هذا الورق غالبًا بسبب عدم الحاجة إليه أو بهدف إضافة بعض المال إلى دخلهم المحدود. ومع أن تلك الأوراق قد تكون في يوم من الأيام وثائق هامة أو تحمل ذكريات لأشخاص ما زالت صورهم حية في الأذهان، إلا أن النهاية تكون مغايرة. فبدلاً من أن تحفظ تلك الأوراق كأثر لحياة أو قصة، تتحول في نهاية المطاف إلى مجرد غلاف يلف وجبة طعام. فماذا يعني أن تُصبح الأوراق الرسمية التي تحمل ذكريات وأحداث حياة بشرية مجرد وسيلة لحفظ الطعمية؟

 

قصص ما وراء الأوراق المفقودة :

تتجاوز هذه الأوراق كونها مجرد مستندات رسمية، فهي تحمل في طياتها أحيانًا قصصًا مليئة بالمشاعر والأحداث الإنسانية. قد يكون الشاب الذي رمى شهادة تخرجه قد شعر باليأس بعد سنوات من الدراسة التي لم تُثمر، أو ربما تكون الأم التي وجدت نفسها عاجزة أمام تحديات الحياة قد تخلصت من أوراق أبنائها الذين ضاعوا في دوامة الزمن. وقد تكون أيضًا تلك الأوراق التي اختارت فتاة أن تتركها وراءها بعد أن فشلت في العثور على السعادة في زواجها. هذه الأوراق، التي كانت في يوم من الأيام تمثل بداية جديدة أو علامة على نجاحٍ ما، تتحول في النهاية إلى مجرد حطام من الماضي، يتم التخلص منه دون أدنى شعور بالندم أو حتى التفكر في ما كان.

الطعمية في ورق دين .

في رحلة استكشاف مصير الأوراق الرسمية المستخدمة في لف الفول والطعمية، يبرز حديث شيخ أسامة، صاحب محل شعبي، ليكشف عن بُعد روحي وأخلاقي مختلف في التعامل مع تلك الأوراق. يقول شيخ أسامة: “كتير بيجيلي ورق مكتوب فيه آيات قرآنية أو أدعية. لما بشوف حاجة زي دي، بفصلها على طول وبحطها على جنب. ما ينفعش نستخدمها في لف الطعمية، ده كلام ربنا أو حاجة ليها احترامها.” ويوضح أنه عندما يعثر على مثل هذه الأوراق، فإنه يحتفظ بها بعيدًا عن الاستخدام، بل ويحاول تسليمها لمن يستطيع التصرف بها بشكل مناسب، حيث يضيف: “مرة لقيت كتيب صغير عن الأذكار وسط الورق، وزعته على الناس في المنطقة بدل ما يكون مصيره زبالة.”

وحين طرحت عليه تساؤلًا حول السبب وراء وجود مثل هذه الأوراق ضمن الورق العادي، علق قائلاً: “هو مش طبيعي، لكنه مش غريب. الناس ساعات ما بتاخدش بالها وبتبيع أي ورق في البيت من غير ما تدور عليه كويس. ممكن يكونوا مضغوطين أو مش عارفين قيمة اللي في إيديهم. ده شيء يزعلني، لأن الحاجات دي ليها حرمتها.”

شيخ أسامة يؤكد أن استخدام الورق يحمل مسؤولية أخلاقية، سواء كان مكتوبًا فيه كلام ديني أو لا. ويضيف: “كل واحد في شغله مسؤول إنه يحترم الحاجات اللي ليها قيمة، سواء كلام ديني أو حتى أوراق كانت ليها أهمية في حياة حد. ده جزء من احترامنا لبعضنا كبشر.”

حديث شيخ أسامة يبرز بعدًا نادرًا في القصة، حيث لا يُنظر إلى الورق على أنه مجرد أداة وظيفية، بل شيء يستحق التقدير والاحترام إذا حمل كلمات دينية أو ذكريات شخصية. ومن هنا تتضح الحاجة إلى توعية الأفراد بأهمية فرز الأوراق قبل التخلص منها، لتجنب إهانة ما قد يحمل معانٍ روحانية أو إنسانية عميقة.

يا باشا انت مكبر الموضوع!

حديث رضا قدم لنا وجهة نظر مختلفة تمامًا عن باقي الآراء، حيث يتعامل مع الموضوع بشكل عملي بعيد عن أي تعقيدات أو مشاعر. عندما سألته عن احتمال أن يكون الورق الذي يستخدمه قد يحمل ذكريات أو قيمة معنوية لأصحابه السابقين، أجاب باستغراب: “أنت بتتكلم جد؟! يعني إيه ورقة زواج أو شهادة تخرج في قرطاس طعمية؟ هو أنا فاضي أفكر في كده وأنا عندي زباين واقفة في طابور وعايزة أكل؟! ده ورق زي أي ورق، ملوش قيمة بالنسبة لنا.”

وعندما تابعته حول ما إذا كان يعتقد أن الورق قد يحمل ذكريات أو قيمة سابقة، قال بهدوء: “بص، مع احترامي، بس لو الناس كانت مهتمة بالورق ده، ما كانوش باعوه مع الخردة. الورق اللي بيجيلي خلاص انتهت قيمته بالنسبة لأصحابه، فإحنا بنستفيد منه في اللي ينفعنا. يعني إيه يخليه مهم وأنا بألف بيه طعمية؟”

وأشار رضا إلى أنه أحيانًا يلاحظ تفاصيل مثيرة للاهتمام على الورق، مثل صور أو كتابات غريبة، لكنه لا يعطيها اهتمامًا كبيرًا، قائلاً: “بصراحة؟ يمكن مرة أو مرتين لقيت حاجات زي صور أو ورق مكتوب فيه حاجات غريبة، بس ما فكرتش فيها كتير. دي شوية ورق، مش هقعد أفتش في حياة الناس من خلاله. اللي يهمني إن الطعمية تطلع سخنة والزبون يروح مبسوط.”

و أضاف “إحنا في شغل، يا أستاذ. ما فيش وقت نفكر في الحاجات دي. أنا مش بشوفها كده. الورق ده بالنسبة لنا وسيلة للشغل وخلاص، مش أكتر. لو كل واحد هيقعد يفكر في أصل كل حاجة، مش هيشتغل!”

أما عن إذا كان سيغير أسلوبه في حال انتقده أحد بسبب ذلك، قال رضا: “بص، لو الناس مش عاجبها الورق، ممكن أجيب بديل. بس لحد دلوقتي محدش قال لي حاجة، ولا حد اشتكى. الناس بتدفع عشان الأكل، مش عشان الورق اللي ملفوف فيه. مش شايف الموضوع كبير زي ما بتقوله.”

  “الورق ده مش مهم

في ذات السياق، قال أحد أصحاب مطاعم الفول والطعمية: “الورق ده مش مهم بالنسبالنا، ممكن عيني تقع على كلمة أو جملة أفهم إنها ورقة مهمة، لكن بكمل شغلي، الناس عايزة تاخد الطعمية سخنة وتمشي”. هذه الكلمات تعكس بشكل صارخ كيف أن بعض الناس ينظرون إلى الأوراق الرسمية كأشياء بسيطة بلا قيمة تذكر. ورغم أن تلك الأوراق قد تحمل في طياتها لحظات من الحياة كانت ذات معنى في وقت من الأوقات، إلا أن الواقع اليومي يعكس تجاهلًا واضحًا لها. فهذه الأوراق، التي كانت في يوم من الأيام تمثل معالم مهمة في حياة الأشخاص، سواء كانت شهادة تخرج أو وثيقة رسمية، تتحول في لحظة إلى مجرد وسيلة لحفظ الطعام، دون أي اعتبار للماضي الذي كانت تحمله. قد تكون تلك الورقة جزءًا من قصة حياة شخص، مليئة بالأمل أو الأحلام، لكنها تنتهي اليوم في يد صاحب المطعم لتكون مجرد غلاف لوجبة شهية يشتريها الزبون. هذا التبدل العجيب في مصير الأوراق يكشف عن المفارقة بين القيمة الحقيقية لتلك الوثائق وواقع استخدامها البسيط في الحياة اليومية. .

! يمكن للحياة ان تتحول بغرابة لا ندركها

من هنا، تكشف ظاهرة استخدام الأوراق الرسمية في لف الطعمية عن جانب غريب وملفت من حياة الناس في شوارع مصر الشعبية. أوراق كانت في يوم من الأيام تمثل جزءًا من ذكريات وأحداث حاسمة في حياة الأفراد، تتحول اليوم مع مرور الوقت إلى مجرد غلاف لوجبة طعام متواضعة. تلك الأوراق، التي قد تحتوي على شهادات تخرج، أو عقود زواج، أو حتى وثائق حكومية هامة، تصبح ضحية للزمان والمكان، وتحمل في طياتها قصصًا وأحلامًا كانت جزءًا من واقع ذات يوم. كما لو أن الزمن لا يرحم شيئًا، حتى الذكريات تُهدر في سبيل توفير خدمة يومية بسيطة. هذه الأوراق التي تمثل جزءًا من حياة بشرية مليئة بالأمل، تتحول تدريجيًا إلى مجرد حطام من الماضي، يخدم غرضًا جديدًا بعيدًا عن قيمتها الأصلية. إن هذا التحول المذهل يذكّرنا بكيف يمكن للحياة أن تكون مليئة بالتحولات الغريبة التي قد لا ندركها إلا بعد فوات الأوان، وأننا قد نجد أنفسنا فجأة في وسط دوامة من الأحداث التي لا يمكننا إيقافها أو حتى تفسيرها

Shares:
Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *