فيتشر:علياء حسين – روضة سامر
في مكان بعيد عن الأنظار وراء جدران دار القاصرات تختبئ حكايات لا تحكى بسهولة لفتيات ولدن في بيئة قاسية لم يمنحن الفرصة ليعشن طفولتهن كما يجب بل وجدن أنفسهن ضحايا عنف أسري أو زواج مبكر أو قسوة شوارع لم ترحم ضعفهن كل واحدة تحمل ندوبا لا ترى لكنها محفورة في الروح تذكرهن دوما بأن الحياة لم تنصفهن يوما ولكي نستكشف هذا العالم توجهنا إلى هشام حسين مدير الدفاع الاجتماعي بوزارة التضامن وهو رجل رأى مئات القصص المؤلمة وعاصر تفاصيلها الذي تحدث معانا بواقعية مخلوطة بالألم قائلا:”نحن نحاول أن نصلح الزجاج المكسور لكن الحقيقة المؤسفة أن آثاره لا تزول يمكننا أن نساعدهن على التعايش لكن النسيان هذا مستحيل” موضحًا أن أغلب الفتيات يصلن في أوضاع نفسية وجسدية منهكة بعد تعرضهن لمحاولات استغلال بشتى الطرق مشيرًا إلى أن بعضهن دخلن عالم الجريمة دون قصد بعدما وجدن أنفسهن مضطرات للسرقة من أجل البقاء بينما جاءت أخريات وهن يحملن آثار العنف والاعتداءات التي تركت ندوبًا لا تندمل بسهولة.
كما أضاف أن أشكال العنف التي تعرضت لها الفتيات لا تقتصر على ما يحدث لهن في الشارع فحسب بل تمتد جذورها إلى داخل البيوت نفسها مشيرًا إلى أن بعض الأسر تخلت عن مسؤولياتها بسبب تفككها أو انشغال الأب بحياته الجديدة بعد زواجه من أخرى بينما في حالات أخرى عانت الفتيات من الإهمال ووجدن أنفسهن في الشارع بلا سند أو حماية وفي ظل هذه الظروف لم يكن أمامهن خيار سوى البحث عن مأوى في أماكن قد تكون أكثر خطرًا من منازلهن الأصلية
.
عندما يصبح البيت أول جرح
وعند هذه النقطة تبادر في ذهننا سؤالًا عن أبرز أنواع العنف التي يتعرضن لها قبل وصلهن إلى دار القاصرات وهنا أوضح هشام حسين أن الحالات التي تصلن إلى الدار تكون تعرضت لجميع أنواع العنف الجسدي والنفسي فبعضهن قد جاءن من الشارع بعد أن مارس عليهن (ابضيات الشارع) المسيطرين على شوارع بعينيها العنف الجنسي لدرجة حدوث حمل غير شرعي والأب هنا لا يكون له علاقة بالطفل فهؤلاء الرجال يعتبرون كل فتاة هى حق مكتسب لهم حتى وإن كانت الفتاة في بيت أهلها يتم التهجم على البيت و إجبارهن على كل ما يريدون وتعد هذه القضية من القضايا الأكثر حساسية التي يواجهها الدفاع الاجتماعي مشيًرا إلى أن التعامل مع هذه القضايا يتم بحرص شديد لضمان حصول جميع الأطراف على حقوقهم خاصة الطفل الذي لا ذنب له كما هناك حالات تعرضن إلى العنف الأسري في المنزل.
وفي مواجهة هذا الواقع القاسي تحاول الدار توفير بيئة آمنة لهن لكنها تصطدم بتحديات كبيرة بمجرد دخول الفتيات إلى الدار تبدأ مرحلة جديدة من حياتهن حيث يخضعن لجلسات تأهيل نفسي بهدف مساعدتهن على تجاوز الصدمات التي مررن بها والعمل داخل الدار لا يقتصر على توفير المأوى فقط بل يمتد إلى محاولات إعادة تأهيلهن نفسيًا واجتماعيًا حتى يتمكنّ من العودة إلى المجتمع لكن المهمة ليست سهلة دائمًا.
رحلة البحث عن الأمن
أما عن رحلتهم التي يخضونها إلى أن يصلن لدار القاصرات أكد مدير الدفاع الاجتماعي بوزارة التضامن أن الطريق إلى الدار لم يكن سهلًا فمعظم الفتيات لم يأتين بإرادتهن موضحًا أن %90من الحالات تصل عبر الجهات الرسمية إما من خلال محاضر الشرطة أو بعد تحويلهن من المستشفيات التي استقبلتهن مصابات أو عن طريق بلاغات من الأهالي الذين ضاقت بهم السبل وعندما يتم إدخال الفتاة إلى الدار تبدأ مرحلة أخرى من المعاناة لكنها هذه المرة معركة لإعادة التأهيل ومحاولة منحها إحساسًا بالأمان بعد سنوات من الخوف والخذلان.
ولكن الوصول إلى الدار لا يعني نهاية المعاناة بل بداية مرحلة جديدة من الصراع النفسي داخل جدران الدارإذ تحاول الفتيات التأقلم مع واقع مختلف تمامًا عن الماضي الذي ألفنه فمعظمهن يعانين من صدمات نفسية وجسدية بعدما تعرضن لمحاولات استغلال بشتى الطرق.
ولا يقف التحدي عند إعادة تأهيل الفتيات فقط بل يمتد ليشمل الدعم النفسي والإرشاد مع أسرهن إذ أكد هشام حسين مدير الدفاع الاجتماعي على أن التعامل مع الأسر المسيئة يظل أحد أصعب العقبات التي يواجهها العاملون في المجال إذ رفضت بعض الأسر الاعتراف بأخطائها ما جعل مساعي إصلاح العلاقات بينها وبين الفتيات معقدة وفي بعض الحالات كان الإصلاح مستحيلًا فاضطرت الجهات المعنية للبحث عن حلول بديلة لحماية الفتيات وضمان مستقبلهن.
وبينما تحاول بعض الفتيات بدء حياة جديدة لا تتمكن أخريات من تجاوز ماضيهن بسهولة فليس جميع الفتيات قادرات على العودة إلى أسرهن فبعضهن فقدن هذا الخيار للأبد وفي هذه الحالات تلجأ الجهات المسؤولة إلى برامج التأهيل المجتمعي حيث يتم توفير شقق تحت إشراف المؤسسة مع توفير فرص عمل مناسبة سواء في محلات الملابس أو المؤسسات الحكومية.
وأشار هشام حسين إلى أن بعض الفتيات استكملن تعليمهن حتى التخرج وأخريات تم تزويجهن لضمان استقرارهن ولكن على الرغم من هذه الجهود المبذولة لحماية الفتيات وإعادة دمجهن إلا أن 20% من الفتيات هربن من الدار بعد فترة وعادت بعضهن إلى حياة الشارع تاركات خلفهن أطفالهن في مشهد يعيد إنتاج دائرة المعاناة ذاتها موضحًا أن هذا التحدي يمثل معضلة حقيقية إذ أن بعض الفتيات بعد سنوات من الاستغلال والتشرد يجدن صعوبة في التأقلم مع الحياة داخل دار الرعاية فيفضلن العودة إلى الشوارع التي ألفنها
.
عقبات لا تنتهي
ورغم كل ما مرت به الفتيات تظل هناك محاولات مستمرة لضمان حقوقهن وحمايتهن فتابع هشام حسين مدير الدفاع الاجتماعي أن الجهود داخل دور الرعاية لم تتوقف عند توفير بيئة آمنة إذ خضعت هذه المؤسسات لإشراف حكومي دوري لضمان جودة الخدمات المقدمة مع زيارات شهرية وصناديق شكاوى لا تُفتح إلا من قبل الإدارة بالإضافة إلى جلسات نفسية فردية عند الحاجة مشيرًا إلى أن هذه الإجراءات وضعت لضمان راحة الفتيات لكنه أقر بوجود عقبات أبرزها نقص الكوادر المدربة وضعف التمويل وصعوبة إقناع الفتيات بالثقة في المجتمع مجددًا.
وعندما سُئل عن الحلول التي كان يتمناها لو وُجد في موقع المسؤولية فأجاب: قبل التفكير في الشراكات والتعاونات كان يجب أولًا سد العجز الوظيفي داخل المؤسسات وتدريب العاملين بشكل مكثف إذا أصبح الجميع على مستوى عالٍ من التأهيل كان يمكننا بعدها الحديث عن الإبداع والابتكار في طرق رعاية هؤلاء الفتيات
.
لو كان لهن صوت
وبعدما عرضنا جانب من معاناة لفتيات ربما لم يعرف عنهم الكثير كان هناك سؤال حول ما إذا اتحيت الفرصة للفتيات لتوجيه رسالة للمجتمع فماذا سيقلن؟
قال مدير الدفاع الاجتماعي بوزارة التضامن:” إنهن ربما سيخجلن في البداية ولكن يسيتطعن فيما بعد الرعاية التحدث مع من تتشابه ظروفهن معهن أوحتى أمام أهل الدار والمؤسسة دون أي إدراك منها لأن مشاعرها هي التي تتحدث.
ويبقى الإنسان رغم قسوة التجارب والظروف محاولًا التعايش من جديد لكن الحقيقة المريرة أن اَثار الألم تبقى محفورة وعالقة كونها ذكرى لا تنسى فنحن نحاول أن نُسكن الجروح ونجعلها قابلة للتعايش لكننا لا نستطيع محوها فمهما بدت الحياة أكثر استقرارًا تبقى الكلمات عاجزة عن وصف مرارة ما ذاقه الفتيات القاصرات ويظل الصمت أبلغ من أي تعبير.